من شرفة الماضي، بلدة بوشر جولة في ساعة

 

كتب
يحيى المعشري 📝
ysk24@hotmail.com

ليست ساعة توضع على مِعصم اليد فنخلعها وقت ما نشاء ولمن نشاء، ليست ساعة نقضيها في أروقة مقهى كاريبو نحتسي خلالها الموكا في أديرة المتصوفين اليمنيين والتي اكتسبت تسميتها من الميناء اليمني الشهير "المخا"، إنما هي ساعة من لهيب المشاعر، ساعة من فيض الشوق، قضيتها بين أروقة "بلدة بوشر"، متنقلا من منزلنا الحالي بقرية جال إلى القرى المجاورة، ساردا شيء من الذكريات، متحسسا أسواقها وأزقتها، ملامسا قلاعها وخلايا قبورها وجزء من تاريخها وعراقته. 

رن منبه هاتفي بصوتٍ قوي أحدث دويّ وكأنه قاطرة بخارية تحشرجت إطاراتها على شارع مهترئ، أفقت مسرعاً على وقع هذا الصوت المزعج، تلاشت أحلام ليلة البارحة في غمضة عين، كان لزاماً عليّ أن أفي بما قطعت، فهو دين على عاتقي يُلزم سداده، كيف لا والرجل الشرقي الزم ما عليه سداد ما عليه من دين وإن كان بينه وبين ذاته العصية، هرعت مسرعاً إلى ترتيب حاجيات هذه الجولة الخاطفة والتي أحسبها لا تتجاوز الساعة من الوقت، إلا أنها تحمل بداخلي أرتالاً من الأحداث كما خيل لي أثناء التخطيط لها.. عليكم أن تحزموا الأمتعة وأن ترتلوا الصلوات تلو الصلوات فجولتنا اليوم ليست إلى غابات الأمازون كما كتبت "مارغريت روم" في روايتها رجل من نار" إحدى روايات "عبير" في رحلة تختصر المسافات بين الحلم والواقع، روايات المغامرة تذهب في كل مكان في العالم وتعود محملة بالعبير، عبير العاطفة والحب واللقاء والسعادة. وشيء من رواياتنا هنا لا تقبل الاختصار فهي بين سندان الذاكرة ومطرقة الحنين.

 أدرت مقود سيارتي من بواكير الصباح بعد استفاقة منتشية محملة بعبير الود، اعتدت أن أركنها في موقفٍ أشبه ما يحمل صفة الخصوصة بجوار باب المنزل، كان صباح هذا اليوم يميل إلى الحرارة العالية، رغم ذلك فهو مفعم بالحماسة والألق، ربما هو ألق الموعد الذي ضربته مع نفسي إلى مهد الذكريات، كانت السماء صافية تماماً من كل شيء، أخذ ضوء الشمس يتسلل بسرعة؛ وكأنه أراد أن يطبق عليّ على حين غرة، توجهت فوراً وبدون أن أمنح نفسي مزيداً من التفكير حتى  لا أسوف ما نويت القيام به، صوبت نظري وفكري إلى "بوشر بني عمران" قاصداً "مزرعة المربع" التي اعتادت أن تلقي علينا السلام في كل صباح جيئةً وذهابا، فمزرعة المربع ليست بستاناً يحوي أصناف الفواكه والخضروات، ولا تلك الجنائن المعلقة التي سكنت بلاد الرافدين وهي من مررنا عليها ذات سنوات في كتب التأريخ واصفة ملك آشور في نينوى عندما خطت المخطوطات عن زراعة الأشجار على الرواق المسقوف كما ذكرت في النصوص القديمة، مزرعة المربع لم تكن تلك المزرعة التي تضم بين جنباتها أنواع الورود والحيوانات بمختلف أجناسها ولا تجري عبر جبالها الشلالات الدافقة كالتي شاهدتها في مدينة الملوك في إحدى دول البلقان، لكنها ضلت تحتفظ بمكانة خاصة عندي وعند من مر عليها من البيادير وهم من يستأجرون المزرعة؛ يستأثرون بها طوال المدة التي تكون معهم والأغلب تستمر مع البيدار لسنوات فهو من يعتني بها ويقوم برعايتها، من ريّ وزراعة وعناية وتقليم إلى حين موعد الحصاد وتستمر معه حتى الموسم اللاحق ليدخل المنافسة في موعد طني النخيل أو بالتراضِ بينه وبين مالك المزرعة، وقبل ولوجي إلى الطريق المؤدي إلى مزرعة المربع أخذت جولة خاطفة قبالة بيت الوالد مسعود بن حمد الجابري، فهناك يمتد السيح وبه العديد من أشجار السمر والسدر والسرح والغاف وهي من الأشجار المعمرة التي تنافح من أجل البقاء وبقايا قبور مرت عليها أزمنة وقد رويت عنها الروايات الكثير وسال مداد الحبر على ذكرها ونشيج القلم على الكيفية التي تبقيها، هذا السيح هو سيح الظاهر، فهناك غارات بني بطاش التي ما برحت أن تطحن رحاها بلدة بوشر لولا عناية الرب، فكانت لهم غارة إلى بلدة بوشر كما رُوي لي من أحد كبار السن بالتحديد في هذا الموقع عندها كان المكان عبارة عن ضواحي وقد أقبل نفر من بني بطاش في رحلة طويلة من مكان سكناهم إلى أن حلّ عليهم المساء وأنهكهم التعب وخارت قواهم، فكان عليهم أن يخلدوا للنوم على شرفة بجانب "القليعي" ذلك الجبل الذي   يميل إلى الاصفرار وبه كهف الخفافيش، حتى إذا عسعس الليل ونام بني بطاش عند مزرعة الصرم بعد السير الطويل المجهد والمضني، علم البو سعيديين الذين سكنوا بلدة بوشر بمقدمهم فما كان منهم إلا أن أرسلوا واحدة من جواريهم، أتتهم عِشاءً وهم نائمون، فتصرخ صرخة قوية في غفلة وكأنها تحذرهم بأنهم في خطر، فأثارت الذعر بينهم وانتشروا فتم الطلق العشوائي للنيران فمات منهم سبعون نفر وفروا وعادوا أدراجهم، وسميت الموقعة بالهيجة أو الهيجاء لهياج الناس وغضبهم، وهنا لا أمتلك المعلومة الكافية التي تتيح لي المجال لسردها في معرض كتابتي هذه إلا أن ذاكرتي لا زالت تختزن البيت الشعري لشاعر العلماء وعالم الشعراء العلامة الرباني ناصر بن سالم بن عديم في قصيدته النونية
 وأين عنها بنو بطاش أين هموا.. من لي بهم وهم للحرب أخدان،
طال الرقاد بكم هبوا فديتكموا.. فالشمس طالعة والسيف أرعان.
كانت تلك إحدى القصص المروية والتي تم  تناقلها من جيل إلى جيل.
مسرح أحداث الصرم
 

وفي هذا المكان أيضاً يروى أن لمبعوث الحجاج بن يوسف الثقفي أحداثا وهو المدعو محمد بن بور الذي بار في الأرض وعاث فساداً وكان أن رُميت جثث الموتى أعدادا في قبرٍ واحد، فهناك تسكن أرواح كتب لها القدر أن تفارق الحياة في الحروب. ولمن يمر بهذا المكان مستشعرا تناثر القبور التي مر عليها مئات السنوات وربما أكثر.

وأنا أدنو شيئاً فشيئا كان عليّ البحث عن مكان النذر والقربان كالذي يعتمل شعوب العالم عندما تتقرب للبوذا الكبير، الإله المنجي والحفز للحياة، فهمست بيني وبين نفسي بالمعوذات ورتلت ما جادت به قريحتي من آيات، مسحت بيدي على أحد الأعواد والذي بدت هيئته على شكل عود النشاب أو التريكمان كما هو متعارف عليه لدى أهالي بلدة بوشر.


مسجد غنشة أو غنشاء

واستمر التجوال في ربوع بلدة بوشر إلى أن وقع نظري على أحد المواقع الذي يقوم الأهالي والزائرين منذ عقود زمنية بالنذر فيه دفعاً للضرر أو جلباً للخير، كما كانت الاعتقادات السائدة آنذاك، فتذكرت حديث أحدهم إنه مسجد غنشة وهو أشبه بمساجد العبّاد التي تعود إلى 500 عاما وربما قصرت المدة أم طالت، حاله حال بقية المساجد في ولايات السلطنة في ثغور الوطن، هذا المسجد يبعد نوعا ما عن أماكن السكنى، فقد نأى وتوارى عن التجمعات السكنية في ذلك الوقت، ويتميز مسجد غنشة بأنه صغير الحجم وربما يوجد له وقفا كما يقوم السكان في بقية الولايات بإقامة وقف خاص لمثل هذه النوعية من المساجد كما هو حال وقف مزرعة بدع سدرة في قرية قلهات لمسجد الخور في مسقط، أو ربما يتم الاعتماد على النذر والدفع اليسير من قبل الأهالي تقربا للخالق، مسجد غنشة لا يعرف القاطنين من بناه وإلى أي عهد يعود بالتحديد، فهو تاريخ تليد ينبغي النبش في تفاصيله لربما يكون مادة دسمة للمؤرخين المهتمين بهذه النوعية من المواقع أو سيؤول إلى ذاكرة النسيان وتطوى صفحته ويبقى سيرة تُذكر بين كبار السن في السبل وتختفي بين الأجيال القادمة في زمن التاب والآيباد، ففيه قبل زمن ليس بالطويل توجد الأواني البلاستيكية التي سكنها القِدم فبدت بالية وبها الحلوى وبعض اللبان، وهناك بعض النقود التي تُرمى بقصد الحصول على البركة والميرة، توغلت وأمعنت النظر وتفكرت في الحال، هل أستمر في التوغل أم أعود أدراجي، حرتُ حقاً مرات ومرات فبعض القرارات كالقطارات تعبر وتعود إلى نفس النقطة بعد حين حتى وإن طال الانتظار، وبعضها كالمطر يهطل بغزارة ما تلبث أن تسكن السماء ويخفت دويّ الرعد ووميض البرق لتعود إلى ما كانت عليه، استخرت وتمتمت على عجالة عندها طبعت ابتسامة خاطفة على جبين تلك الأيام؛ فالزمن كفيل بأن يزيل المشرئبات ويبدد خيوط الظلام ليحل نور الفكر والتنوير.
مسجد غنشة
 

قرية الظاهر وبيت السركال"

وعند مغادرتي "سيح الظاهر" بعد أن طويت صفحته بتأمل وحنين، ركنت سيارتي في الملعب الترابي الذي شهد لقاءات كروية بيني وبين الندماء، بعدها انصرفت قبالة قرية "الظاهر" كأول اطلالة عشت معها تخوم الماضي، فرمقتُ الساحة التي تتوسط منازل الأهالي، بدت وكأنها فناءً أو عرصة مفتوحة إلى السماء تعطي مزيدا من الضوء لكل القلوب التي تفد إلى هذه القرية الضاربة في عمق التاريخ، كيف لا وهي من تضم في أروقتها "بيت الظاهر" أو بيت السركال، هذا البيت الذي تقاطرنا عليه ونحن صغار شيده الشيخ علي بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي بعد انتقاله من سمائل بمعية والده إبّان دخول الإمام سالم بن راشد الخروصي والشيخ نورد الدين السالمي إلى سمائل، وعند تفحصي لمعنى كلمة السركال كان من ضمن المذكور بأن بيت السركال يعود إلى وكيل الدولة البريطانية في العديد من الدول والموكل له المهمة يعتبر موظفا عند بريطانيا ويسلم النياشين والأوسمة، وبالعودة إلى بيت السركال في الظاهر فإن الشيخ كما يذكر كان واليا واستقر بهذا البيت بعد عودته من الخوير عندما كانت أول إقامة له هناك لسنوات إلى حين تشييده هذا البيت على نفقة الحكومة، وقد يتفجر الذهول لدى البعض عند سماعه هذه القصة، فكانت عودة الشيخ الوالي علي بن عبدالله الخليلي شقيق الإمام محمد بن عبدالله الخليلي لدواعي سياسية واجتماعية وإدارية وكان من ضمن مهام بيت السركال مراقبة أحوال بلدة بوشر ومتابعة استتباب أمنها وتجميع شتات الناس ومحاولة حلحلة شؤونها بعد الاضطرابات التي شهدتها البلدة ولهذا الأمر سميت أبو شر وبعد أن هدأت الأمور واستكانت بمساعدة بعض القبائل والحكومة هدأت الأوضاع وعادت بوشر بعد حذفت الهمزة لتتلطف النفوس وتصبح بوشر بوضعها الحالي والتي سافرد لها بعون الله تعالى بعض المواضيع في سطور، ولبيت السركال أو بيت "الظاهر" مهام عديدة في تلك الحقبة، فقد كان الناس يتجمعون به من مشارب البلدة على موائد الطعام،  ذلك البيت القديم الذي تم ترميمه مؤخراً فانتابني سؤال عابر، لم أرَ لهذا البيت ذكر في صفيحة معدنية وضعت في مقدمة البيت يستطيع الباحث في التاريخ أن يجد له معلومات يستدل من خلالها على هذه الأبنية القديمة رغم خصوصيتها. ولم نرَ لهذا البيت حاله حال بقية البيوت في بلدة بوشر التي شارفت على الاندثار أي معلومات نستطيع الاستدلال منها لمعرفة تاريخها العريق لبناء حاضرها المشرق، فتسمرت مكاني قبل أن الوح بيدي لطّي تلك الصفحة، فخلدت إلى ذاكرتي قليلا عندما كنتُ أقود دراجتي الهوائية البالية ذات الإطارات المهترئة التي ابتعتها ذات يوم من أحمد الرقيشي بأبخس الأثمان والتي كانت تقلني من قرية "قلهات" إلى قرية "الظاهر" نلعب ما شئنا من الألعاب، فكرة القدم كانت حاضرة وكرة المضرب لنا معها صولات وجولات واللعبة الشعبية "اللولو" التي ترمى بأصابع اليد فيظفر بأكبر عدد من يمتلك المهارة والحظ في آنٍ واحد، وكأني أعيش اللحظات عندما أمكث في بيت الوالد مسعود بن هاشل الحبسي برفقة أبناءه الأعزاء، كانت المرحومة الوالدة سلامة زوجة مسعود بن هاشل تكيل وتغدق عليّ السلام بين الفينة والأخرى، حيثُ كانت تسهب في الحديث عن أحوالي وأحوال جل أفراد أسرتي في كل حين، هذا السلام والحديث الودي بيننا يشعرني بالسلام الداخلي والاطمئنان الروحي، فأسلمها روحي وفكري، يسيل حديثها الجميل من لسانها الرطب فأنتشئ ألقا، وهكذا يحدث لي معها عند كل زيارة لي في بيتهم الصغير شكلاً والكبير بما يحمل من أفئدة وقلوب صادقة ترفل بالحب والعطاء، كم أشعر بالغبطة عندما أتذكر حديث الوالدة سلامة الحميم وكم أشعر بالحزن العارم عندما وصلني خبرها وهي تُسلم روحها الطاهرة إلى بارئها.. سلام من الله على روحك النقية أيتها النبيلة، فسقطت دمعة من عيني وقطبت حاجبي، فوقع النبأ عليّ كالصاعقة، كنتُ ساعتها في سفر خارج البلد.

مدخل قرية الظاهر
 
بيت الظاهر أو بيت السركال
تصوير ناصر الجابري

مزرعة المربع بوشر بن عمران"
وفور أن تلقيت النبأ فاضت دموع عينيّ وبدأت تنهمر فأردت أن أطوي هذا المشهد التراجيدي لأواصل سيري، فضغطت البنزين على دواسة سيارتي، ورميت على كتفي الحزام الماروني المتدلي بجوار النافذة الزجاجية، ربت عليّ وضمني بعنف الأحباب حين لقاء بعد غياب، فرمقت السكة الصغيرة التي لا زالت تحتفظ بعراقتها ولا زالت تستقبل وقع خطوات الصغار كما كانت، فتجاوزتها إلى أن رست سيارتي عند باب "مزرعة المربع" فوقفت على ناصيتها أتأمل تلابيب الأمكنة التي ما طفقت كما كانت، حدثت نفسي قليلا هل أذهب إلى مسجد النجار القابع في "بوشر بني عمران" لأرَ مكان الرولة التي غادرت التراب في سبتمبر من عام 2015 وغادرت معها ذكريات المرحوم سالم بن سليمان الحسني في حالة ذهول من القاطنين، خيّم الصمت على جموع الناس، وحزنوا على فراقها وضجت المجموعات بتداول أخبارها وكأني بي أراهم يودعونها الوداع الأخير، فما تعنيه لهم ربما أكبر مما يتخيل روائي يكتب قصص أبطاله بكل حبكة وكياسة أو كاتب تخدعه الكلمات التي تسيل من يراعه فيرسلها إلى المطبعة أو تبقى عالقة في ذاكرة جهازه المثخنة بالحنين، فهي معلم من المعالم التاريخية التي مثلت صورة مشرقة في حياتهم، كيف لا وهي التي تضم أرواح كبار السن السامقة حد السمو، فالجلسات تُعقد تحتها والمشاورات والمخاصمات تحل تحتها، وكانت أشبه ما تكون بمجلس أدب ينفض عنه مخالب التاريخ، يتقاسمون التمرات والرُطب وما يجنوه من مزارعهم، تلاشت حكاية الرولة من فكري قليلا بعد أن ودعتها الوداع الأخير، لكنني لم أبرح المكان حتى أُطل على منزل الشيخ القدير الوالد سيف بن محمد الحسني صاحب الصوت الأسطوري الشجي، فرحت أسرح بخيالي إلى أصوات بلدة بوشر التي عايشتها، فما أروع صوت الوالد عياد البوسعيدي الذي يخرج من فاه وكأنه كروان عندما يدندن بنبرة صوته القوية في البرزنجي، تلك العادة التي ذهبت مع الأيام، فلاح إلى ناظري جلسات الشياب الحانية التي لا تخلو من الدعابة وحديث الأيام التي كانت تعقد خارج أسوار بيت المرحومالمسروري،  فدنت مزرعة "المربع" وهنا مرحلة أخرى تتقاطر علينا، قبل أن نخط الأقلام لننسج من لهيب الغربي في مزرعة المربع حصادا بوشرويا خالصا يتلاشى مع تلاشي تشققات أيادي الأجداد وهي تراوح رفات الموتى، اندفعت إلى الشارع أهيم فيه كيفما شاءت الأقدار وعلى شفا الوصول إلى المزرعة المتاخمة للملعب الذي الهب مشاعر خفية كبتها ردحاً من الزمن، فهناك يسكن المرحوم مرهون الشني السعدي رحمة الله عليه ويجاوره أخوه الوالد مسلم السعدي عندها قلت في حيرة أي ذاكرة متخمة تستطيع أن تستذكر خصال هؤلاء وأي وصفٍ بالإمكان أن يتقرب من أفئدتهم الصادقة، كنا قبل أن ينسج الفجر خيوط الصباح نصحو باكراً مهرولين إلى لجل الشم، رشة ماء على وجوهنا كافية بأن تزيل بقايا اليوم العالقة وكأنها يباب على أرضٍ بور، رغم أن النوم لا زال متمكنا منا إلا أن حوض لجل الشم كان يستقبلنا عندما ننسل إليه وقيت الصباح استقبال الأبطال، فنجثو على الأرض من فرط التعب وقلة النوم، استطرد أخي أحمد ذات يوم قائلاً: علينا أن نسرع إلى مزرعة المربع بعد أن نفرغ من أداء صلاة الفجر، عندها اتسعت حدقتا أخي بدر وامتقع وجهه وحاول الابتسام بصعوبة بعد أن أرهق جسده قلة النوم والتعب، أما أنا تسمرت بالقرب من الفرفارة أنتظر أن تصلني الأوامر لأذهب برفقتهم إلى المزرعة بعد أن ضربنا موعداً مع الوالد، فكان أبناء العم عبدالله، ناصر وسعيد وحمد تتملكهم ذات المشاعر وتربطهم نفس الروابط بذات المكان والزمان، أيام مرت علينا سريعا، بما تحمله من عبق الماضي، فتأملت مرة أخرى مزرعة "المربع" محاولاً الدخول إليها فظللت أمشي وحيداً كيفما شاءت قدماي، فرمقت السواقي كلها وجذوع النخيل الهالكة كلها، سرتُ قليلاً خلف الباب الموصد بالأغلال أتلمس متانة القفل، فسرى في أوصالي شيء من الغرابة.. لِمَ يحكم صاحب المزرعة إغلاق الباب بهذا القفل المتين، ولِمَ أصبح الباب موصداً طوال الوقت وكأن من بالداخل متهمون بإراقة أرواح بريئة أم حكم عليهم بالإعدام جرّاء اقترافهم أو مشاركتهم في حروب إبادة، لوحت بيدي إلى الجدار الإسمنتي الطويل وكأن سور الصين العظيم يعترضني؛ فزّ من مكانه ليحط رحاله هنا في هذه الأرض التي ضمتنا ذات وقت، أرهفت سمعي إلى صوتٍ أجش يخرج من بين الحشائش، فإذا به العامل الآسيوي يصرخ بأعلى صوته معترضاً وجودي في هذا المكان، في البداية لم أستوعب ما حصل، كيف له أن يزجرني وأنا من خاض معارك ضارية في هذه المزرعة، متنقلاً بين النخيل والسواقي، ممتطيا غدورها، مدندناً بأصوات اليامال، نعم فالشاهد على ذلك حبل الطلوع والموراد والقفير ومعدات البيدار التي يفتخر ويفاخر بها وهي تخترق كتفه؛ قاطعاً السكيك والأزقة، يلقي السلام على العابرين وعلى الذاهبين والغادين في رحلة لن يخفت بريقها. كنا نعرج ساحة المربع كما يفعل كل البيادير في بلدة بوشر، منهم من مكث عقداً من الزمن ونيف، كان عمي عبدالله ووالدي يهرعون إليها لقضاء أوقات النهار، بين العمل المتمثل في صعود النخيل وبين الريّ وجني ما تحويه من الرُطب والحصول على جريد النخيل، حيثُ يحفرون بالمجز قعر النخلة من الأعلى ليخرجوا الحجب ذا الطعم الشهي المستساغ، وابتسامة البيدار كانت حاضرة لا تفارق محياهم، فتذكرت المقولة الشهيرة التي تلامس هذا الواقع "الجمال في البساطة"، وبين قضاء أوقات الأنس وتناول الطعام المتمثل في سحناة القاشع وحفنة خبز في حضرة اللقاء في السجم المصنوع من جريد النخيل برفقة الخالة فاطمة زوجة عمي ووالدتي العزيزة عائشة ومن يصحبهن ذات وقت من نساء الأحياء المجاورة، فهي رحلة صباحية يقضونها بين السواقي محدقين إلى الأرض اليباب فيرشونها بالماء وقطرات العرق تتساقط وكأنها أشلاء انشطرت على ساحة صومعة حرب أو خرجت من فوهة مدفع، فهن لم يعرفن الماركات العالمية المدججة بأصناف الأشكال والوانها الزاهية، ولم يكنْ من رواد الكابتشينو وموكا ولاتيه ولا حتى تحتسيان فنجان قهوة على ضفاف نهر سافا أو شواطئ الإسكندرية، أو تمكثان ساعات تأمل تنظران إلى القمر، ولا ممن تستهويهن جلسات الساعات التي يدار بها العصف الذهني الذي كثر في محاضرات التنمية البشرية. فكانوا ممن يدرؤون الحسنة السيئة ويتقاسمون بينهم وبين الجيران الزاد كما يتقاسمون التمر والتمرات، وفي منازلهن يقمن النساء بتنظيف واجهة المنزلبالمجمعة كل صباح، فلا يجد عامل النظافة إلا ما يسر ناظريه، فالمكان بدا براق وجميل.
من أروقة مسجد النجار
 
الرولة التي سقطت عام 2015م
يقال من قام بزراعتها المرحوم سالم بن سليمان الحسني
مزرعة المربع

السكة الصغيرة
 
قبور خلايا النحل"

قفلت عائدا أدراجي فلمحت قبور خلايا النحل أسفل جامع الخليلي، تلك الكنوز الأثرية التي تعتبر من الشواهد المنسية في غياهب التاريخ وكأنها تقدم لي دعوة للنبش في أروقتها عبر مئات وآلاف السنين.
 
قبور خلايا النحل
خلف جامع الخليلي ببلدة بوشر
 

تعليقات

إرسال تعليق

مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

الطريق إلى شرم الشيخ

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة