في خيابان ولي عصر نتساءل عن الريال والتومان
يوميات مسافر إلى إيران
يحيى المعشري
في اللحظة التي وصلنا فيها إلى العاصمة الإيرانية فاجأنا برد ربيع طهران كنسمة
باردة تدغدغ زهرة ليلكية أرجوانية؛ فاستشعرنا التجارب القادمة بعاطفة عميقة وما
أجملها فنحن الفارين من أجواء مسقط الصيفية المرهقة؛ لتلامس أجسادنا النسائم
الباردة التي أحببناها؛ كان علينا في
البداية دفع أجرة سائق سيارة الأجرة؛ مدركين في قرارة أنفسنا أن ارتفاع قيمة الصرف
في المطارات ليس السبب لعدم قبول صرفنا مبلغ سيارة الأجرة فحسب؛ فهناك اعتبارات
أخرى فضّلت عدم التطرق لها، فورًا طلبنا
من السائق قبل ركوب السيارة شرطين أساسين؛ الأول تحديد قيمة التوصيلة والثاني نقلنا
إلى أقرب صرّاف في شارع ولي عصر وهو الشارع الذي قررنا السكن به في العاصمة
الإيرانية طهران؛ فرفع السائق سماعة هاتفه وبدا شاردًا يتحدث بهمس؛ وكأنه يود عقد
صفقة خيالية مع طرفٍ دون علم الطرف الأهم وهم نحن؛ كنت أعلم أن غالبية سائقي
سيارات الأجرة على تماس مع صرافي "السوق السوداء" ولي معهم تجارب سابقة
في مدينة "شيراز"؛ في ذلك الوقت كان علي قبول أوامر المترجم الذي أتعامل
معه؛ أما في هذه الرحلة لا يبدو الأمر مقبولًا بالنسبة لنا وقد خططنا منذ البداية
المضي قدمًا مع التعاملات المصرفية بالطريقة القانونية والمشروعة فور قبولنا فكرة
زيارة إيران بلا مترجم أو مرشدٍ سياحي؛ لكننا مجبرين بعدم إدانة التعاملات
المصرفية للسوق السوداء في إيران وهي تُمارس في كلِ مكان؛ أمام مرأى العين وبالقرب
من المصارف المعتمدة ولهم أماكنهم التي لا تجرمها الحكومة الإيرانية؛ ألقينا حقائب
السفر في فندق إقامتنا وهو فندق "هتل بارسا" في شارع ولي عصر وقبل
الشروع بأي عمل توضأنا لأداء صلاتي الظهر والعصر؛ سرت همهمة من فهد وأخذ يسرد
علينا أهمية الحصول على بطاقة بنكية في الوقت الذي بدأنا أولى خطواتنا في السفر
إلى إيران؛ الأهم فالأهم؛ في حين أننا اعتمدنا في بادئ الأمر محفظة "نيو
كاش" وهي محفظة الكترونية للسياح القادمين إلى إيران تشحن للاستفادة من
الخدمات المالية دون حمل مبالغ مالية في اليد لكننا واجهنا صعوبة في الحصول عليها في
بلدنا سلطنة عُمان بسبب ضيق الوقت وصعوبة معرفة الأشخاص الذين بالإمكان التعامل
معهم في السلطنة؛ في حقيقة الأمر أن حمل المبالغ هذه هي المعضلة التي دائمًا ما
تشكل عبئ للراغبين في زيارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ إضافة إلى صعوبة
التعامل مع العملة والتفريق بين الريال والتومان و"لعنة الأصفار" كما
وصفها الصديق "ناصر" في حديثٍ سابق قبل قرار السفر وعدم قدرة استخدام
بطاقاتنا المصرفية التي نتعامل بها أينما حللنا وأينما ذهبنا بسبب الحظر الدولي؛ فقررنا
اللجوء للحل الأخير وهو الحصول على بطاقة
سائح وقد تعرفنا عليها عن طريق إحدى الصفحات في الفيس بوك، في صباح اليوم التالي
توجهنا للشارع باحثين عن سيارة أجرة توصلنا إلى "بنك سبه" BANK
SEPAH فتوجهنا إلى
أقرب فرع والجميل الذي وجب ذكره أن هذا البنك لديه أفرع كثيرة في أرجاء الجمهورية
الإسلامية الإيرانية، دلفنا "بنك سبه" في ميدان انقلاب شارع
"خالقي" وميدان انقلاب هو ساحة تقع وسط طهران وهو المركز والقلب النابض
لهذه العاصمة المكتظة؛ حيث التحركات البشرية التي تتمركز عنده مع وجود أهم الأماكن
الحيوية ومحطة ميترو تربط مدن العاصمة الإيرانية طهران، في حينها وأثناء طلبنا
البطاقة البنكية "بطاقة سائح" كان حديث أحد العاملين وهو متعهد بالتعامل
مع السياح باللغة الإنجليزية وقد كان يؤكد علينا سنخاطب الفرع الرئيسي كتابيًا، واستطرد
يقول: إن كنتم في طهران بإمكانكم مراجعتنا في هذا الفرع وإن كنتم خارج طهران سيتم
التواصل معكم هاتفيًا للتوجه إلى أي من فروعنا داخل إيران؛ وفي كل الأحوال سأتواصل
معكم شخصيًا، طلب من الصديق "فهد" رقم هاتفه في إيران الذي حصلنا عليه
فور وصولنا مع باقة إنترنت تزاملت معنا طوال رحلتنا هذه، حينها لم نكن نعلم صدق
حديثه من عدمه ولا من قابلية الحصول على البطاقة، دخلنا البنك وسط أفكارٍ مشوشة
كانت تشغلنا- عشنا متاهة الظنون؛ أننجح في الحصول على البطاقة البنكية هذه أم لا-
سمعنا صوتًا ينادينا للدخول على مكتب المدير دون غيرنا وهو مدير الفرع بينما
المحليين يجلسون في كراسي الانتظار بوجوه شاردة وأجسادٍ متعبة، يعبئون استمارات
ورقية إلزامية مع وجود مُعِين لمن لا يجيد القراءة والكتابة، دخلنا مكتب المدير بأمرٍ من المتعهد مرحبًا بنا
لكنه لا يجيد اللغتين العربية والإنجليزية؛ كان رجلًا يبدو من ملامح وجهه أنّه
شارف على العقد السادس من العمر- فارع الطول، متوسط البنية الجسدية، تبدو عليه
أمارات الوقار والشيب- دمث الخلق، كان مبادرًا على خدمتنا، من الوهلة الأولى سرى
بداخلنا شعور الاستغلال وأننا أمام مشهدٍ درامي لا نعلم إلى أين تسوقنا أقداره؛
لكن شيئًا من ذلك لم يحصل فحمدنا الله على ذلك، تناهت في الأرجاء جلبة إثر دخول
إحدى السيدات وهي سيدة عجوز تحمل رضيع بدين الجسد في سلة وقد لفته بالقماط؛ التفتت
حولها أعين الموجودين لا أعلم لهذه النظرات سببًا عدا أنّهم لم يتخيلوا هذه العجوز
بهذا العمر وهي أم لطفلٍ رضيع؛ هكذا ظننا عند رؤية المشهد فأشحنا بنظراتنا إلى
المدير وهو يعيش ذات التيه؛ قاطعني "فهد" مستفسرًا هلّا أخبرت المتعهد
كم يستغرق من الوقت حتى نحصل على البطاقة البنكية وهي الهدف من مجيئنا؛ قدّموا لنا
الشاي الأحمر مع السكر بالزعفران عالي الجودة على أعوادٍ خشبية مضادة للبكتيريا؛
هكذا فضله الأصدقاء "ناصر" و "فهد" أما أنا ففضلته بدون سكر؛
أخذ المدير يتحدث معنا والمتعهد يترجم وقد
أسرّ على الصديق "فهد" بدفع رسوم الحصول على البطاقة البنكية وهو مبلغ
دولارين وقد يفاجأ السائح إلى إيران بوجود مجموعة أفرع في المدينة الواحدة كما
تفاجأنا ونحن نخترق المدن الإيرانية بالسيارات وحافلات النقل العام والمشي الذي
لازمنا طوال رحلتنا أن هذا البنك يوجد في
العديد من المدن الإيرانية وبعد انقضاء ثلاثة أيام ونحن في العاصمة
الإيرانية طهران؛ ومض هاتف الصديق "فهد" مشعرًا إيّاه باستلام البطاقة
وعليه إحضار الأوراق الثبوتية ورقم محلي إيراني؛ لنبدأ بعد ذلك رحلة أخرى طارقين
أبواب الربوع الإيرانية ومروج المسافات القادمة في رحلتنا بلا مترجم؛ بعيدًا عن
حمل الأوراق النقدية التي ترهق الزائر إلى إيران كما أرهقنا التفكير فيها مثل
الكثيرين...
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام