المدينة القديمة في بوكيت؛ تطواف بين زمنين
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند- بوكيت
يحيى المعشري
حالة صمت عمّت ساحة الضوء في ملعب السباك
تكرو في جزيرة كوه سيري المعزولة بعد أن قررنا مغادرتهم متوجهين إلى المدينة
القديمة؛ اعتراض مرفوض؛ كنتُ أعلم أنّهم يودون بقاءنا في حضرتهم؛ نلعب ونمرح
ونتشارك اللحظات الجميلة، نبدي لهم الامتنان على حسن استقبالنا ويكملون هم فرحتهم
بوجود غرباء يشاركونهم اللعب وهو ذاته القلق الذي سارونا ونحن نفكر في الوصول إلى
المدينة القديمة؛ حاول العاص الحصول على معلومات تفيد بالمسافة التي ينبغي علينا
أن نطويها للوصول إليها فاستعنا بخرائط جوجل وكانت المسافة من الوهلة الأولى تبدو
قريبة فآثرنا المشي قليلًا على الرصيف تحفنا المزارع المظلمة؛ نصيخ السمع لأصوات
الكلاب الضالّة من بعيد وصياح ديك قادم من المزارع المواربة وأصوات صراصير تخرج من
تجاويف البيوت التايلاندية وكأنها تستيقظ غفلة لتبوح بأسرار المساءات في هذه
الجزيرة؛ ثمة سيارات وعربات تتقاذف على الشارع جيئةً وذهابًا وأعيننا تترقب من
يقلنا إلى وجهتنا القادمة؛ كحكاية أرصفة وظل عجوز يتنقل بين الطرقات لتذوي قدماه
حتى تتفطر من تعب الحركة وفرط المسافة، شارف التعب أن ينال منّا بعد يومٍ طويل
فقررنا الاستراحة عند أول استراحة على الشارع فلم نفلح بالحصول عليها وفي تلك
اللحظة لوحتُ بوميض هاتفي لأحد الباصات الخاصة فأبدى السائق استجابته قلت الحمد
لله أتانا الفرج في الوقت المناسب فبادرتُ قائلًا: المدينة القديمة؛ فحرك إبهامه
دلالة على قبوله فكرة إيصالنا وقبل أن ننبس ببنت شفة قال بـ 100 بات فأبدينا
قبولنا إيجابًا؛ نعم لا بأس وكأننا ننتصر لكل اللحظات التي قضيناها بعد يوم طويل؛
السائق يراه مكسبًا له وهو في طريقه ونحن
نراه انتصارًا أتى في وقته دون أن نلقي بالًا للقيمة المادية البسيطة.
بدأ القمر يختفي خلف سحابة مشبعة بالمطر ما
هي إلا دقائق ونحن عند البوابة التي تفضي للمدينة القديمة دخلناها من إحدى
البوابات التي وضعتنا في متاهة المكان، لقد قرأنا عنها وتتبعنا المدونات المرئية
منها والمكتوبة والصور الضوئية ولم نجد إشارة من أحدهم عن متاهة البوابات، لا أعلم
هل هي متاهة حقًا أم أننا أضعنا وجهتنا ودخلنا مدينة أخرى غير المدينة القديمة
كانت فكرة تراودنا في تلك اللحظة وكنّا على شفا قرار العودة إلى منطقة الباتونج
مكتفين بهذا التطواف لهذا اليوم قبل أن نشاهد طوابير بشرية تتدافع أغلبهم من
السحنات الأوروبية؛ تتدلى الحقائب الصغيرة خلف ظهورهم؛ عرفت أنّهم رحّل خرجوا من
أماكن سكناهم واستكملوا يومهم في المدينة القديمة أو أنهم من المقيمين بها في
فنادقها الفاخرة أو نزلها الصغيرة بتشكيلاتها الأنيقة وقد تكون هي آخر محطة قبل أن يلقوا أجسادهم بين طاولات
الحانات وسكنات المزاج.
توقفنا عن التفكير في المآلات القادمة
وانخرطنا نسير خلف الرحّل الموشومين بالتاتو وذوات الشعر المخضب بشتى الألوان؛
فأصبحوا دليلنا في طريق الوصول للقرية القديمة فطفنا بين أكشاك الباعة الذين
يعرضون الملابس بمختلف أنواعها وأشكالها والحلي الفضية والمأكولات والمشروبات
والساعات تتخلل فترة التجوال بعض العروض
المسلية كمدخل يضفي شيء من البهجة والسرور والإدهاش فمررنا على ثلة من الناس
يجلسون القرفصاء على مسطح أخضر وأمامهم فرقة تنشر أغاني الغياب- بدت الموسيقي
وكأنها من المدارس الكلاسيكية التي تترنم على وقعها أجساد الكبار والصغار فقد
أعادت لهم الحنين إلى أزمنة سابقة، ربما ثمة عاشقين عادا إلى بداية زواجهما فور
سماع هذه الأغاني أو ربما مغتربين عادت بهم
الذكريات إلى وطنهم الأم الذي غادروه قبل زمن- هكذا نحن نستشعر جمال
الأشياء حولنا بعد حين من الزمن.
ليت تايلاند كالمدينة القديمة
تتميز هذه المدينة بشخصية مختلفة من حيث
انتشار العديد من المعابد والأضرحة البوذية والبيوت والمقاهي المبنية على النمط
التايلاندي والمعماري القديم؛ وبين الحاضر والماضي تجولت والعاص بين زمنين؛ إذ
بنيت المدينة في مطلع القرن الماضي واستخدم فيها معدن القصدير النفيس مرتفع
التكلفة المجلوب من الصين خلال الاستعمار الصيني، إنني أتفرس الأضواء المرتسمة
والمتشكلة على المنازل والمباني كزنبقة يدثرها الحب وأغنيات تخترق الآذان في
الطرقات ووميض عدسات تسجل حضورها في متاهات التوثيق؛ تناسينا قلقل التنقل بين
وسائل النقل وإزعاجها للمارة هنا في هذا الممشى، حيث لا تدخله السيارات ولا
الدراجات ولا مشاكل التلوث والحوادث إنه ميدان من الميادين الكثيرة المنتشرة في
مملكة تايلاند وعديد من مدن العالم؛ في هذا الممشى يلتقي الناس صغارًا وكبارًا
ويتفاعلون اجتماعيًا مع الحياة اليومية ويعرضون الفنون بأنواعها وأشكالها
المختلفة، هذا أحدهم يحمل سيلفي التوثيق ليعيش لحظاته ويومياته، ناقلًا ما تراه
عينيه؛ فيمرُ بين الناس والأبنية مثلنا وتلك موفدة لقناة متلفزة تتنقل بين أضرحة
المدينة القديمة ومتاحفها وأزقتها؛ تغطي أحزمة النور المنبعثة من بين البنايات؛
تأخذ انطباع هذا وتلك وبين رحلة استكشاف المعالم الأثرية والبيوت المزخرفة
والمتاحف الصغيرة نمضي بين الناس محشورين، نمعن النظر في الأرجاء متناسين يومنا
المجهد مذ بداية جولتنا لهذا اليوم لمقهى ستار بوكس الإطلالة وافتناننا بلعبة
السباك تاكرو بساحة الضوء في جزيرة كوه سيري ومشاركتهم اللعب والمرح ورحلة البحث
عن المدينة القديمة هذه. صوت معزوفات وأغنيات تهز أفئدة الحضور من المقيمين
والسياح والباعة؛ كما تفعل الرياح بالغاب في فصل الربيع- انتصرت لنفسي ومشيت
وحيدًا حاملًا هاتفي بين المحال التجارية لأوثق المشاهدات وبدون علم فأحاسيسي باتت
مسلوبة في عالم التوثيق والتصوير المرئي فمررت بين أقراط مصنوعة من الأحجار
الكريمة أو هكذا تبدو فإذا بي أصطدم بأحد الباعة فاعتذرت وتقبل هو اعتذاري ليقينه
أن الكثيرين ممن عايشهم عبثت بهم كاميراتهم مسلوبين ومفتونين بالمكان والحراك
البشري والتصميم العمراني.
مضى
الوقت وقد حان وقت العودة إلى منطقة الباتونج؛ في هذه اللحظة أمطرت سماء المدينة القديمة
بعد أن قضينا ساعتين منتصبين بين طوابير الانتظار وتذوق التوست بالكراميل في أحد
مقاهي الترند التي ذاع صيتها وكان علينا البحث عن ملجأ نختبئ به تجنبًا لقوة المطر
وهو في حالة تزايد كثيف، اندفعنا مع الجموع في طريقٍ طويل خارجين من المدينة وكان
علينا البحث عن سيارة أجرة أو الاعتماد على تطبيق البولت وبين إصرار سائقي سيارات
الأجرة على رفع تسعيرة النقل مستغلين الأوضاع الجوية وحاجتنا الملحة وتأخر سيارة
البولت التي تاه سائقها في زحمة الطرقات؛ مرت نصف ساعة ونحن ننتظر السائق أنَّ يقبل
علينا فإذا به ينزل من سيارته باحثًا عنا وقد تعرف علينا عن طريق إحدى المحليات
التي تجيد التعامل مع السياح، عدنا إلى منطقة الباتونج حيث التقينا بالرفيق
"فهد" لنستكمل باقي يومنا بها ونعيش باقي لحظاتنا المسائية التي تختلف
تمامًا عن المدينة القديمة.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام