بوكيت الأرض المفقودة

يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند

يحيى المعشري

على وقع نقنقة العصافيـر في سماء الساحل الغربي على ضفاف بحر أندمان؛ تتلألأ الجزيرة المفقودة الراقدة لقرونٍ في سكينةٍ وهدوء على خيرات غاباتها وسهولِها وشطآنِها وجداول أنهارها؛ تقتات من أرضها المعزولة في عالمها الخاص وتعرف الآن باسم "بوكيت" وعلى وقع خطوات تُصاحبك المحال التجارية وعيون الباعة المنتشرين في الأرجاء وأصوات عارضي أكشاك الخدمات السياحية من كل حدب وصوب،  وبين الإصغاء والهدوء من كنبة الفندق الوثيرة والمضي قدمًا إلى شوارعها ثمة أشخاص يرتمون بين أحضان الحانات؛ يتأبطون زجاجات الثمالة وينفثون دخانهم في الأرجاء؛ وفي انطباعٍ أولي عن منطقة الباتونج في جزيرة بوكيت وهي الأشهر بعدما أخذت شهرتها من الشاطئ ورماله الناعمة وأمواج بحره الهادرة التي تتلاقى والبر في مساحة قريبة جدًا؛ يطيب للبعض البقاء في هذه المنطقة لأيامٍ طوال؛ متنقلين بين فنادقها ومنتجعاتها وأماكن الاسترخاء؛ يسعون للنأي بأجسادهم هنا وأرواحهم معلقة بين المكان الحالي وهو بوكيت والوطن الذي أتوا منه وهو مسقط رأسهم وهناك من السحنات ما وجدت لها في هذه البقعة حياتها القادمة،  فقد درج هذا الأمر على الكثيرين من روّاد هذه الجزيرة؛ بينما في الجانب الآخر ثمة فئة من الناس لا تُفضل البقاء هنا كثيرًا ولهم أسبابهم ومُبرراتهم؛ يتخلل الزيارة القيام ببعض الأنشطة الرياضية والسياحية والمغامرات؛ في بوكيت لا تجد صعوبة تُذكر في تأمين رحلة أسرية كانت أم شبابية؛ فالرحلات اليومية أو نصف نهارية توقظُ فيكَ حسك الطفولي وتناغي بمودة رقيقة عذبة تنم عن جوى المحبة والوئام وهي مناسبة لجميع الأطياف؛ تصنع فيها يومك وإن ضعفت همتك في بادئ الأمر لعدم رغبتك ترك سريرك الوثير وكسر شهوة خلودك في النوم بعد يومٍ مليء بالحراك والنشاط وليلة صاخبة على غير عادة ليالينا في منطقة الخليج التي تمتاز بالهدوء والسكون، ومن ضمن الرحلات اليومية المتعارف عليها في جزيرة بوكيت؛ رحلة ( بي بي آيلند بالقارب السريع، وجيمس بوند، ورحلات التجديف المثيرة في النهر والمغامرات بين أحضان الطبيعة وركوب الفيلة والسلك المعلق الانزلاقي وغيرها من رحلات؛ كنتُ لا ألتزم في بوكيت بأي برنامجٍ قبل ذهابي إليها؛ فأغلب رحلاتي إليها أبنيها على رغباتي هناك حسب الأجواء وظروف الطقس والرفقاء الذين يخفروني في الرحلة وفي الأيام التي لا أود القيام فيها برحلة مغامرة أستجدي رغباتي فأجد ضالتي بالتجوال إما في شواطئها أتفرس الفعاليات اليومية والأنشطة التي تترك في جسدي حيوية المكان؛ فتسري في عروقي تلك الهواجس التي تبث الحيوية والنشاط، تتقافز خطواتي أكثر ما تتقافز في شاطئ الباتونج الشهير، كما توجد به جلسات تؤجر للرّواد بأسعارٍ مناسبة تلائم جميع الأذواق؛ وقد تتململ من العروض التي تلاحقك عنوة من العارضين أو احتساء القهوة في أحد المقاهي المُطلة على الشاطئ وفي تلك الجلسة؛ أي جلسة المقاهي أعمد على تصفح المخطوطات التي أبحث عنها في محرك البحث أو كتابة مذكراتي اليومية وهي كثيرة لا يمكن حصرها في جلسة أو عدّها بين زحام الجموع، فأتجول ببصري في الأرجاء؛ لأتحسس الشخوص والأمكنة وأشرع في الكتابة دون توقف؛ كما أنني أطيل النظر في الناس ودبيب الأقدام التي ترتاد المكان فتتلاقى الأعين والأحاديث أما العاملين التايلانديين الذين يعرضون عليكَ خدماتهم اليومية فما أكثرهم فلا يشعرونك بالغربة ووحشة المكان؛ ها هي بائعة في عقدها الخامس أتت تجر أقدامها ومعها هدية وهذا عازف شاب اتخذ مكانًا قصيا يُطربك سماع صوته ومعزوفاته التقليدية مقابل مبلغٍ تضعه في إناءٍ فارغ تركه بالقرب منه وتلكَ سيارة نقل "وانيت" حمراء اللون تشعُ من جنباتها ألوانٌ براقة تبدو صغيرة الحجم بها مكبر صوت تسمع نداء يجبركَ أن ترهف سمعك وتمعن النظر بتركيز، يقول لكَ بنبرةٍ متناغمة تتميز بها جزيرة بوكيت دون غيرها من مناطق وأرياف تايلاند "صاندي نايت، تو دي تو دي" فتختبئ العيون والحواس خلف النداءات المتكررة لعروض الملاكمة التايلاندية "فنون الدفاع عن النفس" وهي من العلامات المميزة التي يعرفها مرتادي جزيرة بوكيت على وجه الخصوص والجميل في تايلاند توجد فروقات في نوعية الخدمات المقدمة بين بقية المناطق وقد تكون بوكيت خيارك الأمثل وربما لا؛ المهم أن لا تنسَ أننا نختلف في طبائعنا نحن البشر؛ فكيف لا تختلف الخدمات في كل مكان إذا كان بني البشر هم مختلفون في كل شيء.

في أحد أيام بوكيت وبعد أن قذفتنا حافلاتها القادمة من المطار بسعر (180) بات للشخص إلى فنادقنا في منطقة الباتونج؛ ما بين عاميّ 2009 و 2010 قررتُ ومعي ثلة من أبناء جلدتي وهم رفاقي في محافظة مسقط كان قرارنا الخروج في رحلة لجزيرة "جيمس بوند" وتبعد هذه الجزيرة عن منطقة الباتونج زهاء 47 كيلو مترًا، نزل الرفاق باكرًا إلى بهو الفندق فتناهى لي صوت بوق من شرفة الفندق فتأكد لنا أنه الباص الذي أُوكل له مهمة نقلنا إلى الجزيرة أتى باكرًا بخلاف التوقيت المحدد في ورقة الحجز، على الفور حملنا أشياءنا وحاجياتنا البسيطة التي قد نحتاجها في رحلتنا هذه؛ وتجاهلنا أمر المرور على متجر (سفن إلفن) الموارب للفندق؛ فهرعنا إلى الباص بعد أن طبعنا تحية للموظفة في الاستقبال ونحن ندنو من الباص خرج السائق طالبًا أسماءنا وأوراق الحجز مكتفيًا بزجرنا غير عابئًا بشيء قائلًا أنتم لستم زبائني قالها على وجه السرعة وتوارى بعد ذلك أجريت اتصالاتي بمكتب الحجوزات رغم يقيني التام أن لا أحد في المكتب في هذا الوقت والساعة تشير للسابعة صباحًا، فنحن لا زلنا في بواكير الصباح، عُدنا أدراجنا إلى بهوِ الفندق؛ لا أعلم كم من الوقت انتظرنا نضع علامات استفهام وتساؤلات تلقيناها شرقًا وغربًا بلا هوادة، ما هي إلا دقائق من الوقت وهاتفني أحدهم مستفسرًا عن موقعنا أعلمته أننا جاهزون لم يعلم أننا نعيش قلق فوات اللحظات ولم يكن يدري أننا محاطون بأسئلة كثيرة ولا يعلم أننا أيقظنا النوم من أعيننا بعد ليلة حالمة تعبث بها أقدامنا في الشاطئ؛ توارى الباص عن منطقة الباتونج ومعنا سيّاح من جنسيات مختلفة نتشارك ساعات وأجواء نهارية نطويها بين المغامرة والفرح والدهشة والإثارة. سواء في هذه الرحلة أو الرحلات الأخرى وما أكثرها في جزيرة بوكيت.

إطلالة على مدينة بوكيت