"الحافلات العامة ووجوه متعبة"
يوميات مسافر إلى مملكة تايلاند
الورقة الثانية
"الحافلات العامة ووجوه متعبة"
يحيى المعشري
وبعد أنّ حطت طائرة السلام بسلام أرخت عاصمة أرض الأحرار بانكوك أولى نسائمها في صبيحة يوم الإثنين السادس والعشرون من فبراير وهي العاصمة التي لا تعاني وحشة الغياب؛ حيث أنها كثيرة الحراك والضجيج وفي هذه الأثناء بدأت أتتبع بعضًا من تاريخ هذا البلد العريق، لقد كانت الدولة الوحيدة التي لم تتعرض للاستعمار في منطقة جنوب آسيا على الرغم من الوجود البريطاني الضعيف ذات زمن؛ كالخرقة البالية التي لا يريدها المرء فيتخلص منها في أقرب وقت.
ها أنا أُطل من المصعد الكهربائي
على البوابة رقم (٨) التي تسيّر أسطول بري من الحافلات إلى بتايا وهواهين وغيرها
كأول إطلالة على "سيام" وكأول لمحة على بلاد المؤسس الأول للعائلة
الحاكمة الحالية "فيرا شاكري" راما الأول وعلى أسرة شاكري التي ظلت
ثابتة منذ عام ١٧٨٢ إلى يومنا هذا. وحتى لا أدخل في فخ التاريخ المتأزم للشعوب وحتى لا
أدخل في غواية التحولات الجيوسياسية التي ألقت بظلالها على أجنحة تايلاند لتطير
كنسائم الحب من سيام إلى الاسم الحالي؛ كم كان مطار "سوفارنابومي"
رائعًا بإطلالته المتسعة مليئًا بالسياح من مختلف الأقطار ومختلف السحنات؛ كنت
أتأبط حقيبة صغيرة على كتفي والأخرى أجرها خلفي وأنا مسكون بشغف الوصول، لقد كنتُ
وحيدًا وكنت أملك قراري إن رغبت الانتظار الثلاث ساعات المتبقية قبل مباشرة موظفي
مكتب الحافلات عملهم أم أمضي كالبقية خلف ركبان التعب والتعجل في سيارة خاصة غالية
الثمن تقلني من المطار إلى مثلث العرب في بتايا.
لقد تريثت قليلًا ولا جدوى من
التسرع في القرارات؛ كانت عبارات أسرها في نفسي وتذكرت حديث أحد العُمانيين ويدعى
عبد المجيد الذين التقيتهم عند شريط إنهاء إجراءات الدخول إلى تايلاند وقد عرض
عليّ أن نذهب مجموعة في سيارة خاصة فبادرته بالرفض؛ معللًا رغبتي الذهاب بالحافلات
ورؤية وجوه أخرى لا تتشاطر معنا في الدين والعقائد ورؤيتهم للحياة. سألت واحدة من
العاملات في أمن المطار؛ كانت متعبة ويبدو أنها لم تنم من ليلة البارحة ولم تنل
كفايتها من النوم؛ سألتها عن موعد تحرك الحافلات وحدقت في بعينيها الصغيرتين
اللتين تشبهان عيني النمس وأشارت بعصا غليظة تحملها في يدها وكانت تشير إلى الأسفل
وعليّ أن أستخدم المهبط الكهربائي للوصول إلى بغيتي وهناك بدأت أتقصى الممرات
الجانبية وكأني أمشي في شوارع العزلة؛ لم أتخيل يومًا أنّ أشاهد أحد جوانب مطار
"بانكوك" بهذه الوحشة في هذا الرواق المفضي للبوابة رقم (8)، لقد كان
خاليًا تمامًا من موظفي المطار هنا إلا من موظفات الأمن وكان عددهن بعدد أصابع
اليد- وعدد قليل من المسافرين الذين ينتظرون مثلي موعد فتح مكتب حجز الحافلات؛ لكي
يولوا إلى وجهاتهم التي أرادوا.
لقد كان الشاب محمد من صحار أول
الواصلين؛ تسبقه عائلة هندية مكونة من شاب وفتاة؛ يبدو أنهما عاشقين أو زوجين
ينتظران مثلنا وبعد مضي نصف ساعة بدأتُ ومحمد نتحدث قليلًا لم نكن نعرف بعض بعد
وكنتُ في قرارة نفسي أحاول أن أتوارى عن العلاقات الخارجية في هذه الرحلة على
الأقل؛ فكيف إذا كانت في الساعات الأولى من السفر- طلب مني محمد أن نخرج لنأكل
شيئًا من الطعام في الخارج ومحمد هذا شاب متوسط العُمر؛ تبدو عليه أمارت الطيبة
وجريء في تكوين العلاقات خاصة مع أبناء جلدته، لقد بدا التعب على محياه وكذلك أنا،
كانت المعدة فارغة من الطعام؛ لقد ابتاع محمد قليلًا من الطعام وبقيت أنا حائرًا
هل هذه الأطعمة حلالًا أم ادخل في دائرة الشبهات؛ ففضلت الانتظار لربما انتقم من
الجوع ريثما أصل إلى مثلث العرب في بتايا وفور وصولنا إلى كراسي الانتظار كان هناك
رجلين أحدهم يرتدي الدشداشة العُمانية ويعتمر الكمة وقد شارف على العقد الخامس من
العمر وهو أحد أعضاء المجالس البلدية السابقين؛ أما الآخر فقد كان يرتدي البنطال
وقميص خفيف يصلح لأجواء تايلاند الاستوائية وهو في العقد السادس من العمر ويسكن
الوادي الكبير وكان يردد عبارته أنا أعرفك سبق أن شاهدتك في مكان وكانت هذه
العبارات فاتحة محبة ومن اللافت أنه كان ينتظر صديقًا من عُمان حجر رحلته عبر
الناقل المحلي الطيران العُماني وكان عليه الانتظار كثيرًا حتى يصل ولا يمكنه
الذهاب معنا في حافلتنا وقد يحجز في سيارة خاصة وتبعه الشاب الذي يرتدي الزي
العُماني في رأيه. وفي أثناء جلوسنا وأحاديثنا أتتنا أصوات بعربية مكسرة وكانوا
رجلين متقاربين في العمر من دولة باكستان؛ يعملون في مسقط وكان جدول زيارتهم إلى
تايلاند لا يتعدى اليوم الواحد بعد ذلك عليهم التوجه إلى مانيلا العاصمة الفلبينية
ليوم واحد من ثم العودة إلى مسقط وهذه الرحلة من الرحلات الغرائبية التي مرت عليّ
في أسفاري.
وبعد انقضاء ساعات الانتظار أخذنا
صفوفنا في الطابور لحجز تذاكر صعود الحافلة وقد سبقنا عدد لا بأس به من السياح
أغلبهم من أوروبا وآخرون من دولة الكيان الصهيوني وقليل من جمهورية الهند وكان سعر
تذكرة الصعود بـ (134) بات في حافلة كبيرة ومريحة ويوجد بها حزام في الأسفل توضع
فيه الحقائب، خرجنا من منطقة المطار وأطلت علينا بانكوك بجمالها وطقوسها وحركة
ساكنيها وقد خرج القرويين إلى أعمالهم وبدأت الحافلات التي تقل طلبة المدارس
والعاملين تزداد في الشوارع وجلس الباكستانيان متجاورين وجلس محمد في الأمام وأنا
في الوسط بحسب رقم التذكرة وبجواري رجل ألماني الجنسية؛ يدعى "مولر"
لكنه لا يشبه لاعب منتخب ألمانيا، مولر هذا عريض المنكبين، أشقر الرأس وقد دار
حوار بيننا عن تايلاند وتبين أنه من المقيمين في منطقة شاطئ جومتين ولديه ابنة
تدرس في بانكوك، وحينما سألته لماذا تقيمون طويلًا في تايلاند وكان سؤالي هذا
نابعًا من لطافته في أسلوب التعامل ورغبته في فتح باب الحوار؛ حدّثته عن عُمان
والشرق الأوسط وحدثني عن "ميونخ" مقر إقامته وعمله وسبب هروبه وصعوبتها
وعدم مقدرته تكملة حياته هناك؛ كان يشير وهو يتحدث عن ميونخ وكأنها تفتح أبواب
الظلام للمتقاعدين ومن الصعوبة بمكان أن يبقى فيها وهناك دولة تدعى تايلاند بها كل
المغريات والحياة العصرية والبسيطة والبنية السياحية العالية التي يستطيع العيش
بها هو وأسرته.
كانت ساعتين وبعض الوقت قبل أن يعلن
مسؤول الحافلة عن مكان نزولنا وقد بدى المكان غير المكان المعهود في شاطئ جومتين
ومع إصراره أشار عليّ محمد والباكستانيين علينا النزول؛ وافقتهم الرأي وقلت بصوت
أجش نعم هيا ننزل لنجرب تجربة جديدة في التنقل في حافلة صغيرة توصلنا إلى مثلث العرب
في بتايا فكان لنا ذلك؛ ودعت صديقي العابر "مولر" وأخذني بالأحضان وما
هي إلا أوقات حتى وصلنا بتايا في محافظة تشونبوري وقد بدى محمد فرحًا عندما شاهد
المركز التجاري الذي تحلق به الطائرة المعلقة لكنها لا تطير "صدق أو لا
تصدق"؛ حيث معرض جنة الفن وكانت هنا بوابة بتايا التي أزاحت التعب عني ومحمد
والأصدقاء من باكستان، أنزلتنا الحافلة عند مارين بلازا وهناك كان علينا الذهاب
إلى الفندق المناسب.
في الورقة الرابعة سنسافر معًا إلى
واحد من العلامات البارزة في بتايا بمحافظة شونبوري في مثلث العرب وهو مطعم أبو
سعيد؛ سنفتح معًا ملفات الذكريات مع الرجل الليبي أبو سعيد.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام