على ضفاف جسر نيريتفا المعلق في مدينة يابلانيتسا نحدق في المارشال جوزيف تيتو

 

يحيى المعشري

على ضفاف نهر نيريتفا ومعنا حشود من السياح من مختلف دول العالم

............ ///////.......... 

لم يكن هذا الجسر وحده الذي ألهب مشاعر الشاب مدحت البوسني وهو في منتصف العشرينات ولم تكن الدمعة التي بدأت تنهمر وتذرفها عينا هذا الشاب الوسيم ذا القامة المتوسطة والشعر القصير المنسدل من أطرافه بخجل والأعين الخضراء التي تبدو جذابة في مجتمعاتنا العربية ولا يكترث لها العابرين من ذات السحنة في دول البلقان؛ نعم لم تكن الدمعة وحدها التي تحكي الصدمات التي توالت على محيطهم ذات زمن؛ لربما نحنُ من الأقوام التي تحن وتحب المفقود- كانت الدمعة التي شارفت على مغادرة عينا مدحت قاب قوسين أو أدنى أن تسقط على وجنتيه كما سقطت طائرتنا في مطار بلغراد الصربية لأيام نمني النفس أن تنتهِ لنظفر بمعانقة سراييفو "قدس أوروبا" مُحمّلة بأحلام شابين عُمانيين تقاطعا في محبة السفر والترحال وتشاركا في رؤية تلك الشعوب على سجيتها؛ نعبرُ الأفق البعيدة والسماوات خلف جداران خفق القلوب في بلداننا، تأسرنا الأشياء البسيطة بأدق تفاصيلها ونوثق اللحظات قبل أن تطويها رحى النسيان. كان تطوافنا إلى البوسنة والهرسك أشبه بلعبة الشطرنج نقلبها كيفما نشاء وكيفما شاءت الظروف المحيطة في سفرنا، المشهد على ضفاف نهر نيريتفا جدًا آسر والأجواء في هذا الموسم معتدلة، قلت في سري لـ خالد العنقودي: ونحن نهيم في بحرنا ونسبح في يمّنا الخاص وأشواقنا المتصالحة مع هذا المكان للتعرف على الجديد في هذه الأرض- تحدث مدحت وقد بدأ يسرد لنا الأحداث التاريخية في هذا المكان وقد بدى صوته متهدجًا والبحة في صوته تتسربل من حنجرته وهو يسترسل بالحديث عن مكانة هذا الجسر في مدينة يابلانيتسا وإن كانت ذكرى أليمة في هذا المحيط الأنيق؛ أيقنت الحكومة البوسنية أن  التاريخ بعلّاته عندما يوظف بإمكانه أن يكون جزء من التراث المادي الذي يستقطب السياح من كافة أقطار المعمورة وتجلت لنا مكانة الجسر أنا والعنقودي حينما بدأنا نحدق إلى الوفود السياحية الذين بدأوا يتقاطرون علينا جماعات ونحن نهم بأخذ السيلفي الذي يرضي فضولنا ونثبت من خلاله حب الإعجاب ونرجسيتنا كما تصوره دراسات علم النفس- بدأنا نُمعن النظر في الجنائن حولنا ونسترق السمع إلى الخشخشة في مياه نهر "نيريتفيا"؛ انسقنا مع الوفود القادمة من الشرق والغرب في مشارب الأرض لتوثق اللوحة الطبيعية في هذا المكان وكأنها صور بانورامية جُمعت في لوحة واحدة.

ومضى الوقت وأزفت ساعة الرحيل وقبل أن نهم بالمغادرة وقفنا منتصبي القامة بجوار قطار حديدي قديم وكان شاهدًا على الحرب الطاحنة- قطبت حاجبي فور رؤيتي العنقودي وبدون سابق إنذار يتسلق القطار الحديدي الصغير وكان أشبه بلعبة الأطفال في مدن الملاهي، همهمة استنكار أتبعها مدحت البوسني طبعة ابتسامة على خوفي من بقايا شظايا الحرب وقال في برود اطمئن يا يهيا؛ أي يحيى بلكنته؛ اطمئن؛ إجراءات السلامة وفرق الأمان لدينا قامت بتأمين المكان، حينها ذهب الارتباك وتسلل إلى جسدي الأمان فصعدت القطار أقتفي أثر العنقودي وبعد برهة زمنية قصيرة لمحنا رهط من الناس يرمون الورود بألوانٍ مختلفة على بقعة أشبه بالتلة الرملية الصغيرة فيها رفات موتاهم- مارسوا صلواتهم بخشوع؛ تجلّت لدينا قدسية الموتى لدى هذه الشعوب وهم أمام قبورهم- لم نغادر المكان على الفور وكسرنا حاجز الصمت الذي أطبق على المصلين؛ فلا غرو ولا غضاضة من ذلك لسنا إلا عابرون أتينا إلى هذه الأرض للتنزه وتوثيق ما يمكننا توثيقه، مرئيًا أو بالصورة أو كتابيًا؛ المهم أن نخرج من تيه الصمت على تاريخ الأمس بإظهار الجمال في البقاع التي نزورها، هذه يابلانيتسا المدينة الصغيرة التي تقع وسط البوسنة والهرسك- قطعنا الطريق لنحط الرحال إليها بعد المرور على عدة مناطق وقرى وأنهار وأشجار وارفة الظلال ومروجٍ خضراء وأنفاق شقت الجبال وكانت علامة بارزة تؤكد جدّية العمل في إصلاح البنية التحتية في واحدة من أجمل بقاع دول البلقان.

أخاذة كأنجم تزين السماء الضحوك، رائحة الجمال في الأشجار الظليلة وكأنها أرادت أن تنسل من هذا المشهد الجميل- دلفت إلى ويكيبيديا للاستزادة ولو بالقليل من المعلومات التي بدأ مدحت يدلقها علينا بريبة وقد كان حينها لا يزال صغيرًا، نعم هكذا قال: صغيرًا جدًا عندما سمعَ عن  الحادثة لأولِ مرة- فـ يابلانيتسا مشهورة بمعركة نيريتفا التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية وقد قام فيها المارشال جوزيف بروز تيتو  بتدمير هذا الجسر ليمنع الألمان من التقدم، هنا ونحن نحدق إلى الجسر المعلق يوجد متحف لهذه الحرب كما أخذ مدحت يسترسل في الحديث- وأردف يقول إنه الهجوم المشترك لقوى المحور على هذا البلد الجميل وهذه المدينة الأخاذة؛ كانت أحداث يناير من عام 1943 قاسية على مدحت وهو يستمع إلى حكايات الكبار، فشهرة هذه المدينة جاءت من معركة نيريتفيا حينما طلب القائد تيتو بتدمير الجسور التي تمتد إلى موستار؛ كي يظن العدو أن الثوار المحليين والقائد تيتو هجروا المكان والشاهد على ذلك تحويل تلك المعركة إلى فيلم سينمائي ضخم ومتحف يابلانيتسا الذي تم افتتاحه عام 1978 كي يتذكر الشعب أحداث تلكَ المآثر التارخية، تركنا تلك الأحداث في ذاكرة مدحت وفي أرشيف يابلانيتسا وقلت لـ خالد العنقودي علينا أن نعود فأمامنا طريقٌ طويل، حينها تمتمت في سري قائلًا: ليتنا حجزنا ليلةً أو ليلتين في هذه المدينة وليت مدحت يتركنا حال سبيلنا نستكشف الكثير والكثير من ما تملكه المدينة من أماكن تستهوي عابري الحدود أمثالنا؛ نمارس ما نشاء من أنشطة ونجتمع على صحن مليء باللحم الطازج ونتناول الغداء في مطعمٍ فاخر ينسينا شيء مما أشبعنا به مدحت ونحن نصيخ السمع إليه بتركيز وكأنها صيحة استنكار مالنا نحن وهذه الأحداث القديمة، هيا نعبر جسور المودة؛ نصافح وجوه البسطاء البشوشة على شاكلة مدحت المثقف الطالب البوسني  في المرحلة الجامعية وهو يسرد لنا شيء من ذاكرة تاريخهم عن هذا الجسر.

الزميل خالد العنقودي يشير بيده اليمنى           إلى جسر نيريتفا المعلق 

الشاب البوسني المثقف مدحت 

خالد العنقودي ومدحت أمام القطار

أنا وخلفي القطار الشاهد على الأحداث

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر