الستون تاون نفس أنجوجا وحاضرها

 
 
مشاهدات ومعايشات من الجزيرة المنسية زنجبار (2)
 
المقهوي ينادي كهاوي كهاوى
 
 
تهفو بنا الأقدام في كل مرة إلى خواصر الأمكنة في لمحة عابرة، إلا الستون تاون، فقد كنا نمرقها بين الفينة والفينة، وكنا عندما نتجول في أروقتها نرفض الرضوخ للبرنامج ونرفض المضي وفق خط سير مرسوم، كانت العشوائية أو المزاجية ديدننا، بين ما الذي سبق زيارته وما الذي ينبغي علينا المرور عليه مرةً أخرى، لأننا نتردد عليها كثيراً ونمرق خواصرها كثيرا، بغية توثيق اللحظات والأمكنة، مرتحلين من أزقة البلاد أو (المجيني) كما كان ناصر مرابو يقول، والستون تاون هي المدينة الحجرية التي تعود إلى حقبة سلاطين عُمان في زنجبار في القرن التاسع عشر، وهي نفحة من نفحات العمانيين في زمن يتوسد الأحداث بما تحمل، إن التوغل بين البيوت القديمة وما تحويه من مشربيات وقمريات وأعمدة لا زالت منتصبة وكأنها فارس مهيب لم تثنيه نوائب الدهر عن النزول من صهوات الجياد هو غاية في البهاء والصفاء، في أزقة المدينة تجد المفردات الطبيعية حاضرة، وفي خواصرها الموروثات التقليدية التي تعبر عن الحضور وتغلغل الثقافة العُمانية الموغلة منذ القدم متأصلة، وعندما تنحدر إلى شوارعها الضيقة المنتظمة يأسرك التنظيم العجيب للمدينة وأنا أحملق بتمعن واستغراب في التصنيف المهيب لما تحويه، هتف خالد قائلا: شاهد يا يحيى، وبنبرة تعجب، قبلها رأيتُ خالد يمط شفتيه وقال في برود: الستون تاون هذه أو المدينة الحجرية تأخذك إلى الانفتاح الذهني لدى سلاطين عُمان في زنجبار الذي يعود إلى مائتي عام، عليك أن تتخيل وتتمعن في موضع الحجارة والمشربيات التي استخدمت قديماً كنوافذ وشرفا وحواجز تمنع تسلل أشعة الشمس، وكانت فسحة تتجلى منها بهجة المنازل ورونقها، الشرفات إطلالة تاريخية تشد المارة ومن يستهويه التمعن في جمالها، وكانت تصنع يدوياً، ففي مجد العمانيين في زنجبار وتغلغل الإسلام والعروبة بها، كانت المشربيات إسلامية وعربية الهندسة، فأي فن يتمتع به أسلافنا يا يحيى، قال خالد: حدِق في صمتٍ وسكون في القمريات المنحوتة بإتقان، ركزَّ في الجص المنقوش نقشا بحرفية تامة، شاهد البصمة على الممرات والمحال التجارية ومداخل المنازل وأماكن الجلوس والاستراحات للقاطنين خارج المنازل وفي الأسواق، وعندما تمخر عباب المدينة وقبل أن تغفو عين الظهيرة تجد المقاهي عامرة بالناس، فلا ينفك إبريق المقهوي أن يهدأ ويبرد، هذا الإبريق المعدني الذي لا يفارق الموقد والجمر الذي يوضع عليه، فيبقى ساخنا طوال اليوم، تذوق القهوة وتمعن في طعهما فإن رائحة الدخان عالقة، عليك أن تشنف أذنك بسماع صوت الفنجال وهو يتراقص بين يدي المقهوي ولا تفوت توثيق هذه اللحظة، فبعض اللحظات قد لا تتكرر، فالزمان كفيل بأن يغير الناس، فالحضارة والمدنية قد سلبت منا هذه الأعراف بعد أن غزانا النفط والتقنية، تركنا المقهوي وتوجهنا إلى كيبوندا عازمين على رؤية رائحة الماضي وروح السلاطين عندما يتمخترون ببشوتهم ورائحة الهيل تتطاير من البيوت الصخرية، فانداح في الأفق أحد دور العبادة وهو مسجد الرواحيين فاندلقنا تجاهه مسرعين، فالقبيلة تتجذر في عُمان، والأصول تعود إلى عُمان، والبنيان مزيج من عدة حضارات، فودعناه على أمل العودة إليه، فاندفعنا وملامحنا ممتلئة بالدهشة والشوق يمضي معنا إلى حيثُ شبابيك البيوت الزاهية، وكأنها شبابيك بلدان الشام وما وراء النهرين، وعندما نتفرس الأزقة ونتمعن في دواليب الأمكنة نشاهد روائح السيد برغش بن سعيد الذي ألهب زنجبار حتى أينعت زهورها وبانت ملامحها فأصبحت أندلس الشرق في أفريقيا. وقبل أن نجفل كل زاوية من زوايا البلاد، وقبل أن نودعها الوداع الأخير أماط ناصر مرابو لثام التمعن في الأزقة قائلا: هيا لنحتسي عصير قصب السكر ونعوض ما فقدناه أثناء تجوالنا من بواكير الصباح إلى هذا الوقت، أومأت له إيجاباً وأشحت بنظري إلى خالد قائلا: نعم آن الأوان أن نرتشف عصير قصب السكر اللذيذ فمن يخوض معترك التجوال في زنجبار ويقصد البلاد، حواريها وأزقتها، يرمق بنيانها ويحيك بأقدامه نواصيها، عليه أن يقف على هذه الناصية، عند شباك بائع عصير قصب السكر بالقرب من بائع الخبز قبل أن يصل إلى أزقة المدينة عند عربة الفواكه الاستوائية الطازجة، ويمعن النظر في الطريقة البدائية في إخراج العصير ويتلذذ برشفة هانئة تعيد له بريق الحياة كما أعادت لنا جولتنا هذه حياة السلاطين.




إضافة شرح

احتساء عصير قصب السكر اللذيذ












 
8 يوليو 2018م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات من عينت والشطيفي؛ جولة في تخوم مطرح

من باحة سيدي أبو العباس المرسي إلى بيت ريا وسكينة

بين الشخوص والأمكنة، تجوال في أحياء بلدة بوشر