قرية العلياء الجنة المفقودة بين سفوح الجبال.
يحيى المعشري
@ysk243
........
كان الحديث عن الأماكن السياحية؛ بالأخص التي تحوي على مسارات جبيلة محط اهتمام لدينا نحن الذين اعتادوا أداء تمارين فترة العصيرة وكان يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع أحد خياراتنا لسبر أغوار الطبيعة بتجلياتها، كنّا نقرأ جمال الطبيعة قبل ولوج المسارات الجبلية- البداية كانت في جبال مسقط وهي لا تقل صعوبة عن مثيلاتها من جبال، هذه المرة آثرنا الخروج من شرنقة مسقط؛ دانة الخليج إلى الفضاء الفسيح في ربوع بلادنا الحبيبة عُمان، فورًا أطلق ناصر الجابري اقتراحه لكسر روتين أجواء مسقط إلى خارجها وكان اختيارنا هذه المرة "قرية العلياء" بوادي بني خروص في ولاية العوابي التي جمعت بين جمال الطبيعة وكتب التاريخ وأخبار الأئمة والعلماء والشعراء والأدباء والكتّاب والكثير من القصص والأخبار المتواترة خرجت من بين هذه القرية وما جاورها من قُرى، دلفنا قرية العلياء بعد أنَّ تفرسنا الصفحات الالكترونية في محرك البحث العالمي جوجل؛ فاخترنا الطبيعة في واقعها أكثر مما رأينا في الفضاء الافتراضي، كان وصولنا لـ"قرية العلياء" متأخرًا نوعًا ما؛ الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا ولا زلنا نبحث عن مكان نوقف به سياراتنا، لكنّ الجميل في الأمر حضور المياه الجارية والأشجار الوارفة والنخيل الباسقة بتفرعها وميلانها، هناك أناقة أضفت على المكان جمالًا، نصيخ السمع إلى أصوات خرجت من قمقم الأحراش؛ أشعة الشمس بدأت تعبث بالأضواء المتسللة من السماء، امتقع وجه الرفقاء وهم يحدقون إلى علو الجبال السامقة، ثمة تساؤلات مطبوعة على شفاههم، أقرأ الوجوه وأمارات الدهشة تعتلي محياهم، تُرى هل يمكننا السير والمضي قدمًا لاختراق هذه الجبال؛ وحدها التجارب السابقة التي أمدتتا بالثقة وأعطتنا الأريحية لخوض غمار هذه التجربة المرتبطة بسفوح الجبل الأخضر.
تبادلنا نظرات سريعة بعد أنَّ فرغنا من حشو بطوننا ما لذّ وطاب من طعام الإفطار الدسم هذه المرة وكان لجمال روح العزيز المهندس علي الغافري السبق وهنا يتجلى كرم منبت العلم والعلماء، سرت همهمت استنكار في بادئ الأمر؛ كيف لنا أن نأكل هذا الطعام الدسم ونحن مُقبلين على صعود هذا الجبل السامق، انطلقت صيحة هادرة من الأخ العزيز عدنان البلوشي الذي شاركنا هذه التجربة؛ قادمًا من مصنعة ساحل جنوب الباطنة وأتبعها بابتسامة مطبوعة أبدى فيها ارتياحه وقال على حين غرة: لا عليكم يا رفاق ستصدر المعدة فرمانتها في بادئ الأمر مستنكرة ذلك الحشو من الطعام، بعد ذلكَ تعتاد أثناء السير، لحظتها أعلن قائد المسار الصديق ناصر الجابري بحين موعد البدء وأسدى تعليماته وإرشاداته عن المسار وطرق الوقاية وأهمية السير في خطٍ متوازٍ؛ مع أهمية بقاءنا بالقرب من بعضنا البعض؛ لأي طارئ قد يحصل، كما أنَّ المهندس عامر الحبسي أخذ يسترق السمع بهدوئه المعتاد وكان بلسم الرحلة الذي لا يتوارى عن الحديث عن عشقه لهذه الأماكن، في حين كان الزميل سالم العميري بدأت أشعة هاتفه تومض لالتقاط الصور التذكارية والمشاهد المرئية التي سؤرشف بها ذاكرة هاتفة وربما صفحاته الذائبة تحت الشذرات، وبين الطبيعة الغنّاء وشقوق الجبال ومياه الوادي والأحراش بدأنا ننطلق بهمة ونشاط- لا يستطيع المرء وهو يسير بين ندف قرية العلياء أنَّ يتوقف عن التقاط الصور التذكارية ولا يستطيع البقاء ساكنَا في مكانه؛ ليتأمل هذه التشويقة الطبيعية؛ مستلقيًا ومستفكرًا في عِظم المفرادت الطبيعية؛ مخافة أنَّ يتأخر عن ركب الأصدقاء- فجأة مط المهندس هيثم الهاشمي شفتيه وغمغم في ذهول قبل أنَّ ينبس ببنت شفة وبدأت خطواته تسبقه بين الأشجار التي نصادفها في الطريق؛ كنت مشغولًا ومشدوهًا؛ مشغولا في إعداد ضبط وضعية جهاز "الأوزمو فور" الجديد الذي ابتعته حديثًا؛ لكي لا تهتز الصورة وأبقيها ولو قليلًا على حقيقتها- كنتُ مؤمنًا أنَّ البدايات جميلة وما أروع تجربة البداية في هذه القرية الوادعة؛ إنها العلياء، حيث علو أشجار المانجو والنخيل والليمون وأصناف المزروعات، حيث المياه المنسابة والبرك المائية، حيث السماء الملبدة بالغيوم الخجلة، ثمة أشياء خفية لم تبرح أنَّ تخرج في هذه التدوينة المرئية والصور المؤرشفة؛ لنقرأها كما هي في الواقع- هناك سحابة حبلى ستلد مطرًا أم أنّها تُظلل قبر العالم الرباني جاعد بن خميس الخروصي الذي أخرج لنا من بنات أفكاره كتبًا فاقت العشرون كتابًا، ربما الآن أو في الوقت القادم ستلد مطرًا أم أنّها ديمة عابرة أرادت أنَّ تكون رفيقنا في مسيرنا هذا؛ عشرة كيلومترات ذهابا وإيابا وخمس ساعات قضيناها بين أحضان الجمال؛ بين البساتين والأفلاج وقراءة التاريخ في أرض الواقع.
الاثنين ٢٢ فبراير ٢٠٢١م.
تعليقات
إرسال تعليق
مؤكد تعليقاتكم محل اهتمام